تربية الأولاد في الإسلام : أهمية التربية ـ التاريخ : 27/03/1994ـ الدرس : (1 /51) ـ لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام .. بعد عيد الفطر السعيد ، كنت أفكِّر في موضوعٍ يطرح في درس الأحد ، فقد كان درس الأحد كما تعلمون ، خاصاً بالسُّنة النبويَّة المطهَّرة ، إما للأحاديث الشريفة شرحاً وتبياناً ، أو للأحكام الفقهيَّة التي تدور حول الأحاديث الشريفة ، منذ يومين وأنا أتأمَّل أنه ما من عملٍ أخطر في حياة المسلمين من تربية أولادهم ، لأن هذا العمل بإمكانهم ، هذا من اختصاصهم ، ومن دائرة سيطرتهم ، المسلم أحياناً ينظر يمنةً ويسرةً فقد يجد نفسه ضعيفاً ، أو يجد نفسه مستضعفاً ، لا يملك أن يمنع هذه القوى المخيفة التي تتحرك لتقضي على الإسلام ، لكنه يملك أن يربي أولاده والإنسان إذا أراد ألا يموت ، فعليه بتربية أولاده تربيةً إسلاميةً قد يقول أحدكم : هناك عقبات كثيرة جداً ، وهذا صحيح ، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول :
(( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ))
( سنن الترمذي عن أنس بن مالك )
لا شكَّ أن المهمة صعبة ، لكن ما من عملٍ أعظم ولا أجدى ولا أدوم في حياة المؤمن من أن يربِّي أولاده ، هم بضعةٌ منه ، هم ثمرة قلبه ، هم استمرار وجوده ، وأنا أرى وأسمع وأعاين أن هناك آباءً على مستوىً عالٍ من الفهم ، وعلى مستوىً عالٍ من الكمال ، وعلى مستوىً عالٍ من الإيمان ، لكنَّهم يَشْقَون بشقاء أولادهم ، فالابن يحتاج إلى انتباه شديد وهو في سنٍ صغير ، ويحتاج إلى وقتٍ مديد ، إلى معاينةٍ ، إلى مراقبةٍ ، إلى توجيهٍ ، إلى وعظٍ ، إلى اصطحابٍ ، يحتاج إلى جهد كبير .. لكن والله الذي لا إله إلا هو ، حينما ترى ابنك كما تتمنى ديناً وصلاحاً واستقامةً وتفوّقاً تشعر بسعادةٍ . والله لو أعطي الدنيا بأكملها من الذهب والفضة وكان من أهل الدنيا لا يشعر بسعادةٍ كتلك التي يشعرها حينما يرى ابنه كما يتمنى ، لذلك قد يقول أحدكم : ماذا أفعل ؟ بإمكانك أن تفعل كلَّ شيء ، لكن إذا أردت بإخلاصٍ وصدقٍ أن يكون أولادك استمراراً لوجودك المؤمن ، وأن تخلِّف ولداً صالحاً يدعو لك ، فعليك أن تشمِّر .
الله عزَّ وجلَّ أعطاك هذا الابن هدية ، أو أعطاك إيَّاه هبة ، والدليل قوله تعالى :
َوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
(سورة الأنعام)
هبة ، تعني أثمن شيء تناله من الله عزّ وجل ، طفل بين يديك هو ابنك وأنت أبوه ، خاضعٌ لك ، يأتمرُ بأمرِك ، مصروفه عليك ، نفقته عليك ، توجيهه أنت مسؤولٌ عنه ، فأنا أشعر أنَّ الأب الذي ينهمك بعمله ليحقِّق نجاحاً خارج البيت ، ويهمل أولاده ، يشعر بعد فوات الأوان أنه خسر خسارةً كبيرةً ، وأنَّه ضيَّع أثمن ما في وجوده أولاده .
فيا إخواننا الكرام : والله ما سعيت بكلِّ جهدي لأفتتح معهد تحفيظ القرآن التابع لهذا المسجد ، إلا ليكون أبناؤكم مشمولين بالرعاية ، معهد تحفيظ قرآن وسنحاول في الصيف إن شاء الله أن نبدأ تعليم القرآن الكريم تحفيظاً وتسميعاً وتجويداً ، و شيئاً من الفقه ولاسيَّما أحكام الصلاة ، و شيئاً من سيرة السلف الصالح الصحابة الكرام ، أي هذا الابن سيكون له مناشط إسلامية أعدَّت له من أجل أن ينشدَّ ، أو يرتبط الطفل بالمسجد كي ينشأ على طاعة الله .
على كلٍ الموضوع خطير جداً وطويل جداً ، ولكن أكتفي في هذا الدرس باستعراض النصوص القرآنيّة التي تأمر المؤمن أن يربي أولاده ، من آيات القرآن الكريم قال تعالى :
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
(سورة طه)
المؤمن مكلف بأمر أهله بالصلاة و الاصطبار عليها :
كم من المؤمنين يصلِّي لكن لا يعنيه شأن أهله .. صلَّوا أم لم يصلّوا ، لا يعنيه شأن أولاده .. صلَّوا أم لم يصلّوا ، إذا كان بالإمكان أن تصلّي بهم إماماً في البيت فافعل ، إذا كان بالإمكان أن تصطحبهم إلى المسجد فافعل ، دائما الابن قد يكون عبئاً على أبيه ، لكن إذا كان عبئاً عليه ثم قطف الثمرة اليانعة ، ينسى كلَّ الأتعاب التي تعبها من أجله ، إذاً أوَّل آية :
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
( سورة طه : من آية " 132 " )
فكلَّما دخل وقت الصلاة تذكَّر هذه الآية ، أنت لست مكلفاً أن تصلِّي وحدك .. أنت كمؤمن مكلفٌ أن تأمر أهلك بالصلاة وأن تصطبر عليها .
الآية الثانية :
على الإنسان المؤمن أن يقي نفسه و أهله نار جهنم :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(سورة التحريم)
أمْرُ الله عزَّ وجلَّ لك لا أن تقي ذاتك وحدك ، أمْرُ الله عزَّ وجلّ أن تقي نفسك وأهلك ، فالآية واضحة :
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
(سورة التحريم : من آية " 6 " )
الآية الثالثة :
على الإنسان المؤمن أن يأخذ بيد أولاده إلى الله عز وجل :
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
(سورة النساء : من الآية " 11 " )
خالق الكون يوصيك بأولادك ، والقرآن أحياناً له مناسبة خاصة وله معنى عام ،.. الله سبحانه وتعالى يوصيك بأولادك ، يوصيك أن تربِّيهم ، يوصيك أن تهذِّبهم ، أن تؤدِّبهم ، أن تعلِّمهم ، أن تنشِّئهم نشأةً طاهرة ، أن ترعاهم ، أن تراقبهم ، أن تأخذ بيدهم إلى الله عز وجل ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
( سورة النساء : من آية " 11 " )
(( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ))
(رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر)
أنت مسؤول أمام الله .. ورد في الأثر أن الابن الذي يهمله أبوه ويستحقُّ دخول النار، يقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ ويقول : يا رب لا أدخل النار حتى أُدْخِل أبي قبلي ، لأنَّه كان لي في دخولها سبباً .
هذا الكلام سهل .. إلقاؤه سهل ، واستماعه سهل ، لكن إخواننا الَّذين لديهم أولاد صغار ، الآن أنت مشغول عنه .. لكن حينما يشبُّ في غفلةٍ عنك ، ولم يتلقَّ التوجيه الكافي ، يتفلَّت من بين يديك ، لا تستطيع أن تفعل معه شيئاً ، لا يستمع ، ولا يرعوي ، ولا يصغي ، ولا ينتبه ، يصبح هذا الابن عبئاً على أهله ، فلذلك نصيحة من القلب .. كل أخٍ عنده أولاد يجب أن يمضي جزءاً من وقته في تعريفهم بالله ، في إكرامهم ، في ملاطفتهم ، في التحبُّب إليهم ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( من كان له صبيٌ فليتصابَ له )) .
لا بدَّ من جزءٍ من وقتك تمضيه مع أولادك ، لا تقل لي : والله أنا مشغول .. فأنا أخرج من البيت وهم نائمون وأرجع وهم نائمون ، هذا خطأ كبير جداً ، الملاحظ أن الأب إذا كثر غيابه عن البيت .. تفلَّت أولاده ، لا بد من وقتٍ تمضيه مع أولادك ، هذا الوقت يؤخذ من زبدة وقتك .
(( لأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ....))
(رواه الترمذي عن جابر بن سمرة)
صدقة يوميَّة .. لأن يؤدِّب الرجل ولده خيرٌ من أن يتصدَّق بصاع ، وقد روى الترمذي أيضاً عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال :
(( مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ ....))
(رواه الترمذي عن أيوب بن موسى)
نحن نحاول أن نتعرَّف إلى سنَّة النبيّ ، نحن نحاول أن نتعرَّف إلى توجيهات النبيّ لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
(سورة الحشر)
هذه توجيهات النبيّ ..افعل ما يأمرك به النبيّ ، ولا تلتفت إلى الرزق ، ما الدليل ؟ الدليل هو قوله تعالى :
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
(سورة طه)
العلماء استنبطوا : " أن الذي يأمر أهله بالصلاة ، يتكفَّل الله سبحانه وتعالى له ولهم بالرزق ، هكذا تقول الآية ﴿ لا نسألك رزقاً ﴾، لا تقل لي : إنني مشغول ، عندنا موسم ، أريد تأمين الطعام لي ولهم ، أنت واحد منهما ، أنت معال ولست معيلاً .. أنت وهم عالةٌ على الله عزَّ وجلَّ ، لا تحتَّج بإهمال أولادك بعلَّة كسب الرزق .. لا نسألك رزقاً .. هذا كلام خالق الكون ﴿ نحن نرزقك ﴾ .
وفي حديث آخر للنبي عليه الصلاة والسلام :
(( علموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم ))
أذكر لكم أنه هناك زوجة ، وهناك زوجة رفيقة (بالمعنى الإسلامي طبعاً ).. معنى رفيقة أن هذه الزوجة إذا كانت على شاكلة زوجها ، إذا كانت مؤمنةً ، مصليةً ، صائمةً ، محبَّةً لربِّها ، قائمةً بأمره ، راعيةً لبيت زوجها ، ترعى أولادها ، هذه الزوجة تسمو عن أن تكون زوجةً فقط تصبح شريكة حياة ، والحقيقة عندما يعيش الزوج مع زوجته حياة أساسها الوفاق الفكري ، والوفاق القِيَمي ، أي إن المبادئ واحدة ، القيم واحدة ، الأهداف واحدة ، حينها يمكن أن يعالج معها موضوعاً طويلاً في أمور الدين ، أي إذا ارتقت الزوجة إلى مستوى زوجها فكان إيمانها كإيمانه ، وإدراكها كإدراكه ، وأهدافها كأهدافه ، وخوفها من الله عزّ وجل كخوفه ، ورغبتها في طاعة الله عزّ وجل كرغبته ، وحرصها على تربية أولادها تربيةً إسلاميةً كحرصه ، هذه أرقى من زوجة .. أصبحت شريكة حياة ، لذلك النبيّ الكريم يقول : (( علموا أولادكم وأهليكم )) .
أي إنّ الزوجة يجب أن لا تكون (طبخ ونفخ بالتعبير العامي) ، وغسيل ورعاية ، وهي ذات إيمان ضعيف ، متفلتة من الدين لأن هذه الزوجة تُمَلُّ ، هي تَملُّ من زوجها وأولادها ، وزوجها يَملُّ منها ومن أولادها .
الحاجات الماديَّة تُمَلُّ سريعاً ، كل شيء له بريق تجد بعد حين أن هذا البريق يخبو ، وهذا أمرٌ معروف فلا يمكن لشيء من الحياة الدنيا أن يعطيك سعادة مستمرة . هذا مستحيل .
تشتري سيارة ، في أول جمعة لا تنام الليل ، بعد سنتين تجدها لا تحتلُّ من نفسك ولا ذرة .. شيء طبيعي ، تسكن في بيت فخم ، في أول شهرين مسرورٌ وفرحٌ به وكلما جاءك ضيف تريه البيت كله .. انظر مساحته - 213- لكن والله العليم - 225 م2 - .. يجب أن تقول له كم مساحته وثمنه ، وتريه الأثاث ، بعد مدة من الزمن تجده أمراً طبيعياً جداً.. حظوظ الدنيا (حظٌ حظ ) ، هكذا أوَّله له بريق ، أما الشيء الذي يمدك بسعادة مستمرة هو أن تتعرف إلى الله ، فالإنسان لو اختار زوجته وفق مقاييس معينة وكانت ملء سمعه وبصره سعد بها ، اِسأل أي زوج بعد سنتين .. الأمر بسيط جداً كيفما كانت زوجته ، بريق وانتهى ، لذلك الزوجة تسعد بها سعادة متنامية إذا عَّرْفتها بالله ، تسعد بها سعادة متنامية إذا كانت شريكتك في الحياة و تسعد بها سعادة متنامية إذا كانت على شاكلتك ، إذا كانت ورعةً ، إذا كانت مؤمنةً طاهرةً ، تسعى إلى رضوان الله عزَّ وجلَّ ، تعينك على الشيطان ، ولا تعين الشيطان عليك .
مرة استنصحني أخ كريم على مشارف الزواج قلت له والله لي نصيحة سأقولها لك : دائماً الزوجة في مقتبل الزواج تحلم بفتى أحلامها ، وهو يحلم بفتاة تروق له ، هي تنتظر أن يبالغ في إكرامها ، وهو ينتظر أن تبالغ في إكرامه ، والاثنان ينتظران شيئاً واحداً ! لذلك يصطدمان ، يكتشف بعد حين أنَّها تريد من يدللها ، وهي طامعة أن يقدِّم لها كلَّ الخدمات ، وهو طامع أن تقدِّم له كلَّ الخدمات ، لذلك يتصادمان ، ولا يسعد الإنسان بزوجته إلا إذا سعد بربِّه أولاً ، وعرَّفها بربِّها فسعدت بربِّها ثانياً ، عندئذٍ تُسعِدُه لأنَّها تعرف حقَّه عليها ، وعندئذٍ تتقرَّب إلى الله بخدمته ، ويتقرَّب إلى الله بخدمتها .
العلاقات في المجتمعات الإسلاميَّة ، علاقات يربط بيْنها اللهُ عزّ وجل ، أما العلاقات في المجتمعات الماديَّة علاقات مباشرة ، ما دام له مصلحة معها يحبُّها ، أما لو أصابها مرضٌ عُضال ، أو لو انقطعت مصلحته منها تجده يطلقها ؟ سمعت عن إنسان ، زوجته أصيبت بمرض ، طلَّقها فوراً !! انتهت المصلحة ، وكم من زوجة مادام زوجها ملء السمع والبصر ، قوياً وغنياً ، تحبُّه حباً جماً ، فإذا افتقر فجأة أو أصابه مرض ، تعامله أقسى معاملة .
لذلك المجتمعات الماديَّة مجتمعات مصالح ، منافع متبادلة ، لكنَّ مجتمعات الإيمان مجتمعات بين كل شخصين الله .
أتمنَّى أن أعبِّر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً ، أي إنّ الزوج يتقرَّب إلى الله بصبره على زوجته ، وخدمته لها ، والزوجة تتقرَّب إلى ربها بصبرها على زوجها وخدمتها له .. وحسبك هذه القاعدة فهي تُسعد الزوجين أيَّما سعادة .. ذكرت لكم كلّ هذا الكلام لأنَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول : (( علِّموا أولادكم وأهليكم (أيّ وزوجتك ) الخير وأدِّبوهم )) .
وفي حديث آخر رواه الطبراني .. يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أدِّبوا أولادكم على ثلاث خصال : حبِّ نبيِّكم ، وحبِّ آلِ بيته ، وتلاوة القرآن ))
(رواه الطبراني)
أمَّا إذا وُجِدَت أجهزة المُلهيات بالبيت .. يؤدَّب الابن على حبِّ الفنانين والفنَّانات الأحياء منهم والأموات ، هكذا .. لا تنس هذا المثل الشهير (خزان ماء) ، الذي تضعه من فتحته العليا تأخذه من صنبوره الأسفل ، ما نوع التغذية التي يُغذى بها أولادك ؟ نوع التغذية .. ما يقرؤون من مجلات ؟ ما يقرؤون من صحف ؟ مع من يجلسون ؟ مع من يسهرون ؟ ما الحديث الذي يدور فيما بينهم ؟ هذه تغذية . ماذا يشاهدون ؟ ماذا يقرؤون ؟ ماذا يستمعون ؟ أين يذهبون ؟ مَنْ أصدقاؤهم ؟ هذه تغذية.. فإذا كان لابنك أصدقاء يغذونه تغذية سيئة ، تغذية أساسها المتعة المحرمة ، أساسها رفقاء السوء ، أساسها الاحتيال على الناس ، أنّى له أن يكون قرَّة عينٍ لك ؟
أقول هذا الكلام لأنني أعاني كل يوم من ذلك ، لأن إخواننا يحكون لي .. أكبر معاناة يعانيها الأب الآن ، أن أولاده ليسوا على ما يريد ، ماذا يفعل ؟ .. أرى أحياناً أنَّ الإنسان يعتصر الألم قلبه ، ماذا يفعل ؟.. فقبل فوات الأوان يا إخوان ، قبل فوات الأوان ، إخواننا الشباب المتزوجون حديثاً هذا الكلام مفيد جداً لهم ، مهما كان ابنك صغيراً يجب أن تربيه ، النبي الكريم أمرنا أن نؤذِّن في أذن الصبي حين ولادته ، ليكون أول صوت وصله كلمةُ التوحيد :
(( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال ، حبِّ نبيِّكم ، وحبِّ آلِ بيته ، وتلاوة القرآن )) .
فإنني أعجب كثيراً من أنك لو جلستَ مع شباب في مقتبل حياتهم ، ترى حديثهم كله عن لاعب كرة القدم ، وهو يهودي ، ومصاب بالإيدز ، كل حديثهم عن لاعب كرة قدم مشهور كثيراً ، هذا طموحهم .. إذا كان لاعبو كرة القدم قدوة شبابنا ، فهذه مشكلة كبيرة جداً ، لذلك أفضل شيء يقرؤه الشاب سير صحابة رسول الله ، القصَّة محببة .. أنت أمام نموذج حيّ ، أمام شاب نشأ في طاعة الله ، أحبَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم .. أي إنَّ الشاب في مقتبل حياته يحتاج إلى قصص تنمّي فيه روح الفروسيَّة ، تنمِّي فيه القيَم ، قيم الشجاعة ، قيم التفوق ، قيم المروءة ، فلا يوجد موضوع يناسب الشباب كَسِيَرِ صحابة رسول الله ، أي إنَّ إخواننا الكرام لو اقتنوا كتاباً في السيرة عن صحابة رسول الله ، وجلسوا مع أهلهم وأغلقوا هذا الجهاز (الملعون) وتخلَّصوا منه ، اقرأ لهم شيئاً عن صحابة رسول الله ، اقرأ شيئاً عن سيدنا سعد ، شيئاً عن سيدنا عمير بن وهب ، هناك صحابة قصصهم رائعةٌ جداً ، واسأل هل يوجد كتاب مناسب لأبنائي ؟ إذا كان الأب قرأ .. الأم قرأت .. أو كلَّف أولاده أن يقرؤوا ، فهذا شيء ممتع جداً .
أقول لكم بصراحة : مهما تكن حياتك شاقةً .. إذا كان بيتك جنة تنسى كل التعب ، يجب أن تجعل من بيتك قطعة من الجنة ، لو كان مئة مترٍ .. لو كان غرفتين لو كان ما يزال على الهيكل ، قضية الجنَّة ليست بالأثاث ، بل بالود ، بالمحبَّة ، بالتفاهم ، بالتعاون ، فأنا أدعو أن تكون بيوتات المسلمين كالجنَّات ، صدقوني .. أخشن طعام مع الحب والمودَّة ، يصبح أفخر طعام ، أثاث متواضع ، طعام قليل ، لكن يوجد مودَّة بين الزوجين والأولاد ، هذا الشيء ينسي كلّ متاعب الحياة ، وتوجد بيوت ثمن البيت منها خمسون مليوناً ولكنها قطعة من جحيم لأنه أُسِس على معصية الله ؛ وهناك بيت يتلى فيه القرآن ، بيت تصلَّى فيه الصلوات الخمس جماعةً ، بيت ليس فيه غناء ولا مُلهيات ولا مناظرُ تُثيرُ مشاعر الصغار البريئين ، هذا البيت مبارَك يحبُّه الله ورسوله ، البعض يعلقون لوحة كتب عليها ـ اللهمَّ بارك هذا البيت ـ فلا تُحل المشكلة مع وجود وسائل الفساد في هذا البيت ، ضع خمسين لوحة ـ اللهمَّ بارك هذا البيت ـ البيت المبارك الذي تقام فيه الصلوات ويتلى فيه القرآن وفيه دعوة إلى الله عزَّ وجلَّ غرفة الضيوف فيه مقدسة ، قد شَهِدَتْ عشراتِ بل مئاتِ السهرات فيها ذكرٌ لله عزَّ وجلَّ ، بالمقابل توجد سهرات مختلطة والحديث فيها عن النساء وعن الأسعار والتجارة هذا حديث ليس له معنى .
فلذلك :
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
(سورة المؤمنون)
بيتك يجب أن يكون مقدساً ... غرفة الضيوف هذه تشهد لك فكم من إنسان دخلها وكان الحديث عن الله عزَّ وجلَّ ؟ غرفة الطعام تشهد لك كم إنساناً دعوته لوجه لله ؟ كم دعوت من أخ مؤمن مسافر للطعام عندك لوجه الله ؟ فالمؤمن إن دعا الناس للطعام له هدف كبير ، إذا دعا إلى ندوة أو سهرة أو لقاء له من ذلك هدف كبير .
فالذي دعاني لهذا الدرس هو أننا لا نملك إلا البيوت صراحة وإن كانت الكلمة مؤلمة فلا نملك سوى بيوتنا ، فهل تملُك أن تغيِّر شيئاً في العالم ؟ لا تملك ، فلا يوجد بأيدينا سوى هذا البيت الذي هو مملكة المؤمن فعليك أن تقيم فيه الإسلام ـ هذا الدرس عن بيتك ، يوجد كذلك درسٌ عن عملك ـ إذا فعلت ما أمرك الله في بيتك وعملك فقد برئَت ذمَّتك كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم :
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ ))
( سنن أبي داود عن عائشة )
هل تستطيع أن تمنع الهجمة الشرسة على المسلمين في العالم ؟ لا تستطيع أن تفعل شيئاً ، إلا أنك تملك بيتك وتملك عملك وتملك أولادك ، نتمنى في الصيف أن نرى كلَّ أبنائكم عندنا في هذا المعهد ، فنحن قد هيأنا مناشط إسلامية تشدُّ الطفل للمسجد وللقرآن ولصحابة رسول الله ، فلا أعتقد بوجود أبٍ يرى ابنه يصلي طواعيةً دون ضغط ، يراه مستقيماً على أمر الله ، ومتمسكاً بالأخلاق الفاضلة إلا وقد شعر أنه قد ملك الدنيا بحذافيرها ، فأحياناً أقول لأحد إخواننا إذا رأيتُ ابنه صالحاً : والله هذا الابن أفضل من ألف مليون لأنه استمرار وخلود لك ، فأنت لم تمت .
أنا لا أنسى أن أحد علمائنا الأفاضل وقد توفي ـ رحمه الله ـ وأقيم له مجلسٌ للعزاء في أحد الجوامع الكبيرة وكنت أحضر هذا المجلس ، وقد فوجئنا أن ابنه طالب علمٍ شرعيّ على شاكلة أبيه وعُيِّن خطيباً مكانه ، فقلت معنى ذلك أن الأب لم يمت لاستمرار الابن في عمل والده ، فكان منطلقي في هذا الدرس : إذا أردتَ أن لا تموت فليكن ابنك على شاكلتك .. إذا أردت أن تستمر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةٍ جاريةٍ ، وعلمٍ ينتفع به ، وولدٍ صالحٍ يدعو له ))
[ صحيح عند ابن خزيمة]
فأولادَكم .. أولادَكم ، إذا جاؤوا إلى الجامع نرحِّب بهم .. فنحن بالعيد قد رتَّبنا أنه إذا حضر الأب مع ابنه فللابن هديَّه ، فالابن لابدَّ له من مرغِّبات ومشجِّعات وإكرام ، فما يؤلمني أشدَّ الألم هو أن يُرجَع طفلٌ يقف في الصف الأول إلى الصف الثاني لماذا ؟ اجعلوه في الصف الأوَّل يصلِّي حتى يشعر بكيانه بالمسجد ولو كان صغيراً .
فقد مر سيدنا عمر في الطريق (وقد كان ذا هيبة) فوجد أطفالاً فلما رأوه تفرَّقوا هاربين إلا واحداً . قال : " يا غلام لِمَ لَمْ تهرب مع من هرب ؟ " ، قال : " يا أيها الأمير لستَ ظالماً فأخشى ظلمَك ، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك " . هذا طفل .
ففي تاريخنا الإسلامي مواقف للأطفال مذهلة ، مرة دخل وفدٌ على عبد الملك بن مروان فوجد طفلاً صغيراً معهم ، فغضب وعدّها إهانةً له ، فأرسل إلى الحاجب وقال له : " ما شاء أحدٌ أن يدخل عليّ إلا دخل حتى الأطفال ! " ، فوقف الطفل قائلاً : " أيها الأمير .. إن دخولي عليك لم ينقص من قدرك ولكنَّه شرَّفني ، أصابتنا سَنةٌ أذابت الشحم ، وسَنةٌ أكلت اللحم ، وسَنةٌ دقَّت العظم ، ومعكم فضول أموال .. فإن كانت لنا فعلام تحبسونها عنَّا ؟ وإن كانت لله فأعطوها لعباده ؟ وإن كانت لكم فتصدَّقوا بها علينا ؟ " ، قال : " والله ما ترك هذا الغلام لنا في واحدةٍ عذراً " .
دخل على سيِّدنا عمر بن عبد العزيز وفود المهنِّئين .. تقدَّمهم وفدُّ الحجازيّين ورئيس الوفد غلام لا تزيد سِنُّه عن عشرة أعوام . فقال له: " اجلس وليقم من هو أكبر منك سناً " .، قال : " أصلح الله الأمير ، المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحقَّ الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمَّة من هو أحقُّ منك بهذا المجلس".
إذا تعلَّم الطفل وتربّى وكان جريئاً وأديباً ، فلا يقدَّر بثمن ، ففي رمضان كنت بميتم من المياتم فأعجبني أخوان كريمان جعلا ما تبرعا به من المبالغ عن طريق ابنيهما الصغيرين وباسميهما .. طفل صغير يقدِّم مبلغاً أمام جمع غفير .. فلان الفلاني تبرَّع بمئة ألف .. أراد الأب أن يعوِّد ابنه على التبرُّع ، على العطاء .. فألاحظ الإخوان يكلفون أبناءهم أن يدفعوا لبعض الأعمال الطيِّبة ليتعوَّدوا على العطاء ، فنحن نملك الآن أولادنا وبيوتنا وهذا أخطر عمل نفعله ، فأنت ترسِّخ قيم الإيمان في هذا الجيل الصاعد ، وهؤلاء كلهم رجال المستقبل .
(( ...... حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا...... ))
(رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد عن مالك)
فالنبي صلى الله عليه وسلم واقعيٌ مع أصحابه .
أحياناً يسافر الأخ خمسة أيام فيقول : اشتقت لابنتي الصغيرة ، لا تذهب من بالي ، وتلاحظه أحياناً يضع صورتها أمامه على مكتبه أو في حافظته ، هكذا فطرنا الله عزَّ وجلَّ على حبِّ أولادنا .
أقول لكم هذه الكلمة : ألاحظ أحياناً وجود أخ ليس متفرغاً لأهله.. فلو أخذتَ أهلك لنزهة نصف نهار ، فقد سررتهم وَسررتَ أطفالك وتمتَّنتْ علاقتك بهم ، وسَرَّيتَ عنهم وتنفَّسوا الصعداء قليلاً ( ولو كانت نزهة متواضعة ) فالآن المواصلات متيسِّرة والحمد لله خذ أهلك إلى مكان يكون بعيداً عن الناس فينطلق الطفل من أربعة جدران إلى بستان ، فهذا العمل ضمن الأعمال الصالحة ليس من الدنيا ، هذا من الآخرة ، عندما يرفِّه الإنسان أحياناً عن أهله فيأخذهم لنزهة يُسعدهم .. فكان الحسن والحسين يرتحلان النبيَّ عليه الصلاة والسلام ، فيمشي النبي وهما راكبان على ظهره ويقول : ( نعم الجمل جملكما ونعم الحملان أنتما ) ، الإنسان عظمته بتواضعه ، كان عليه الصلاة والسلام واحداً من أهل البيت .. فقد كان يكنس بيته ويخصف نعله ويحلب شاته وكان في مهنة أهله .
الآن ندعو أن يكون كل بيت بيتاً إسلامياً ، أن يكون قطعة من الجنَّة فيه مودة ومحبة ، فيه اعتذار وتسامح فيه عطف ومؤاثرة ، إذا دخل الإنسان بيته وكان سعيداً فيه ينسى كلّ متاعب العمل ؛ لكن من هو الشقي ؟ هو الذي ينتقل من شقاء العمل إلى شقاء البيت ، يوجد بالبيت شقاء وخارج البيت يوجد شقاء .
((..... قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لا أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتِ الصّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ))
(رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد عن مالك)
الآن طائفة من الأقوال التربوية
1 ـ لا يمكن أن تصلح الأمَّة إلا عن طريق التربية :
روى الجاحظ أنَّ عقبة بن أبي سفيان لمَّا دفع ولده إلى المؤدِّب قال له : " ليكن أوَّل ما تبدأ به من إصلاح بنيَّ إصلاح نفسك ، فإنَّ أعينهم معقودةٌ بعينك ، فالحسن عندهم ما استحسنتَ ، والقبيح عندهم ما استقبحتَ".
فإذا كان المعلِّم يدخِّن وهو قدوة ، أو إذا سبَّ المعلِّم الدين مرَّةً مثلاً والله هذه مشكلةٌ كبيرةٌ جداً فهو معلم وقدوة ، وإذا كان يكذب مثلاً.. انتهى الجيل بذلك ، الأب معلم فإذا كذب وقال لابنه قل له : أبي ليس هنا ، فهذا موضوع كبير جداً .. معنى ذلك أنك تكذب ، أو تكذب الأم أحياناً على زوجها : لم أذهب إلى مكان .. فيقول : اتصلتُ هاتفياً ولم تجيبي ! فتقول أمام ابنتها : الهاتف أحياناً يتعطل .. تكذب على زوجها أمام ابنتها فتنتهي الابنة وكذلك الابن . قال له : فإن الحسن عندهم ما استحسنتَ والقبيح عندهم ما استقبحتَ .
2 ـ إعداد المعلم المثقف الأخلاقي :
المعلم مثلٌ أعلى ، لذلك بعض العلماء قالوا : لا يمكن أن تصلح الأمَّة إلا عن طريق التربية ، لا يمكن أن تنهض أمة إلا بدءاً من تربية الصغار .. وتربية الصغار تحتاج إلى معلِّم .. إذاً لابدَّ من إعداد المعلِّم . أنا أرى أنه إذا كانت الأمة متخلِّفة وأرادت أن تصبح أمة متقدِّمة فأوَّل خطوة هي : إعداد المعلِّم المثقَّف الأخلاقي ، صاحب المبدأ ، ليبدأ بتربية الصغار وهي الخطوة الأولى نحو التقدُّم .
3 ـ التعاون بين الآباء و المعلمين :
" الحسن عندهم ما استحسنتَ والقبيح عندهم ما استقبحتَ .. علِّمهم سِيَرَ الحكماء وأخلاق الأدباء ، وتهددْهم بي " .. أي أن يكون هناك تعاون بين الآباء والمعلِّمين .. وأدِّبهم دوني ، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء ، ولا تَّتكِلَنَّ على عذرٍ منّي ، فإني قد اتكلت على كفايةٍ منك .
هذا وصية وليّ طالب لمؤدِّب ابنه .. أعيدها عليكم مرة ثانية .. قال له :
" ليكن أوَّل ما تبدأ به من إصلاح بنيَّ إصلاح نفسك ، فإنَّ أعينهم معقودةٌ بعينك ، فالحسن عندهم ما استحسنتَ ، والقبيح عندهم ما استقبحتَ ، علِّمهم سيِرَ الحكماء وأخلاق الأدباء وتهدَدْهم بي وأدِّبهم دوني ، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء ، ولا تتَّكِلَنَّ على عذرٍ منّي فإنِّي قد اتكّلتُ على كفايةٍ منك " .
4 ـ الأبناء ثمرة قلوب الآباء فعلى المعلم أن يقدم لهم أفضل ما عنده :
ابن خلدون في مقدمته يروي أن هارون الرشيد لما دفع ولده الأمين إلى المؤدِّب قال له : " إنَّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه ـ أقول للمعلمين : الطبيب عمله مع المرضى ، والمحامي مع أصحاب المشاكل ، والنجار مع الخشب ، والحدَّاد مع الحديد ، والمعلم مع أفضل فئة في المجتمع مع الصغار .. طُهرٌ على براءة على صفاء على عفويّة على ذاتيِّة .. وهؤلاء الذين أمامك أيُّها المعلِّم ثمرة قلوب آبائهم ، فعندما يقدِّم الإنسان ابنه لمعلم فقد قدَّم له أثمن ما يملك ـ فصيَّرَ يدَك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة ، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين ، أقرئْه القرآن وعرِّفه الأخبار ورَوِّهِ الأشعار وعلّمه السُنن وبصِّره بمواقع الكلام وامنعه من الضحك إلا في أوقاته ، ولا تمرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدةٍ تفيده إيَّاها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ، ولا تُمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه ، وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدَّة " .
1 ـ على الإنسان أن يربي ابنه تربية إسلامية :
نصائح تربويَّة .. في إحدى المرَّات كنت أعاين بيتاً ليشتريه أحد إخواننا ، ونحن نتجوَّل في غرفه فوجدنا بأحدها طفلاً مضطجعاً على ظهره ورافعاً أرجله فوق بعضها ويتابع برنامجاً في التلفزيون .. دخلنا وخرجنا ولم يتحرَّك ولم يغيَّر من وضعه إطلاقاً وأبوه معنا .. فما هذه التربية؟!
من علامات آخر الزمان يصبح الولد غيظاً .. يفيض اللئام فيضاً ، ويغيض الكرام غيضاً ويكون الولد غيظاً والمطر قيظاً .
2 ـ على الإنسان أن يعلم ابنه الصدق كما يعلمه القرآن :
أحد الخلفاء نصح مؤدِّب ابنه قال له : " علِّمهم الصدق كما تعلِّمهم القرآن ـ أحيانا تسأل ابنك من أين هذا القلم ؟.. فيقول : رفيقي أعارني إياه . فتُصدِّقه .. أو تشعر بأن الكلام ليس صحيحاً ، وتتغافل عنه ستتكلف نصف يوم في تحقيق ذلك ، فتذهب إلى المدرسة وتستدعي رفيقه.. فإن فعلتها مرة واحدة عرف الابن أن الكلام عليه محاسبة ، فقد يكون قد أخذه خفيةً ، فإن وجدت مع ابنك شيئاً ليس له فلا تصمت .. تتبَّع ، اسأل ، حقِّق.. اذهب إلى المدرسة بنفسك في اليوم الثاني وإلا تفاقم الأمر ـ واحملهم على الأخلاق الجميلة وروِّهم الشعر ، وجالس بهم أشراف الرجال وأهل العلم منهم " .
3 ـ على الأب أن يصطحب ابنه معه دائماً ليتعرف على أقربائه :
أحياناً يكون عند الأب سهرات وزيارات في العيد ، فخذ معك ابنك ليرى هؤلاء الرجال ويرى مجتمعك وأقرباءك وأصدقاءك ، والكلام المهذب والأحاديث العلمية اللطيفة ويرى مجلساً راقياً .. أمَّا إن تركته مع رفاقه فمزح وكلام فارغ .. اجعله معك دائماً يسمع منك ومن توجيهاتك ويشاهد أخلاقك ومبادئك ، " وجنِّبهم السفلة فإنَّهم أسوأ الناس أدباً ، وَقِّرْهم في العلانية .
4 ـ لا يُهن أحد ابنه أمام أحد :
لا يُهن أحد ابنه أمام أحد كأقربائه أو إخوته أو أصدقائه ـ وأنِّبهم في السر ـ فالخطأ الكبير أن تعنِّف ابنك أمام أحد .
5 ـ على الإنسان أن يضرب ابنه إذا كذب لأن الكذب يدعو إلى النار :
واضربهم على الكذب ، أخطر شيء الكذب : إنَّ الكذب يدعو إلى الفجور وإنَّ الفجور يدعو إلى النار .
6 ـ على الإنسان ألا يخرج ابنه من علم إلى علم حتى يحكمه :
وقال أحد الحكماء لمعلِّم ولده : " لا تخرجهم من علمٍ إلى علمٍ حتَّى يحكموه ، فإن اصطكاك العلم بالسمع وازدحامه في الوهم يُضلُّ المتعلِّم ويعيق فهمه " .
7 ـ أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية حسنة :
وابن سينا ينصح في تربية الأولاد أن يكون مع الصبيِّ في مكتبه صِبْيَةٌ حسنةٌ آدابهم مرضيَّةٌ عاداتهم ، لأن : " الصبيّ عن الصبيِّ ألقن وهو عنه آخذ وبه آنس " ، لقد قرأت بحثاٌ في علم النفس يؤكِّد بعد كثير من التجارب أنَّ ستين في المئة مما يأخذه الطفلَّ يأخذه عن أصدقائه وأقلِّ من هذه النسبة بكثير عن أبيه وأمه .
أيها الأخوة : أخطر عمل كُلِّفنا به هو : تربية أولادنا ، وهو أجلُّ عمل وأطوله أمداً .. فأي عملٍ تفعله ينتهي عند الموت ، أما تربية أولادك تبدأ بعد الموت ، ويكون الابن استمراراً لأبيه ، ويكون صدقةً جارية ، وقد يقول أحدكم : إن ابني كثير الصعوبة ، فأجيبه على ذلك وأقول له : استعن بالله ولا تعجز .. فعندما يعلم ربنا عزَّ وجلَّ منك صدقاً في تربيته ، واهتماماً ورغبةً وإلحاحاً ، فسيهديك الله عزَّ وجلَّ إلى سواء السبيل وإلى الأساليب الناجحة والمؤثِّرة .
فإنِّي أعرف إحدى الأسر ابنهم رسب ست سنوات في الشهادة الإعدادية ، وأصرَّت والدته أن يصبح طبيباً ، دروس خاصةٌ ومتابعةٌ ، وأصبح الآن طبيباً للأسنان ، بعض الآباء يقول عن ابنه : إنه لا يصلح للدراسة فيتركه من أول بادرة تقصير دون متابعة وهذا خطأ جسيم ، فيجب أن لا تضعف همَّتك فكبار العلماء (مثلاً توفيق الحكيم) وهو أحد كبار الأدباء في الأدب العربي ( أما في الدين فلا ) كان ضعيفاً في اللغة العربية وهو في التعليم الثانوي .
اينشتاين ، أكبر عالم في الفيزياء والكيمياء طُرد من المدرسة لضعفه في مادة الفيزياء .
قد يكون الطفل المقصِّر طاقاته لم تُدرَس ، لا توجد ظروف استثارت ما فيه من طاقاتٍ كامنةٍ ، فلا تيأس سريعاً من ابنك ، فعسى أن يكون العلم مفيداً له أكثر من العمل ، فسيعمل بعد ذلك ، أما إذا بدأ جاهلاً فمشكلته كبيرة ، فالمفروض أن يستنفد الإنسان كل طاقاته ، وإن لم يكن قد تعلَّم العلم العادي ، فليعلِّمه العلم الديني ، فلا مانع من أن يطلب العلم في مسجد فهذا علم كذلك ، بل أرقى علم ، فمن كان له مجلس علم فاسمه عالم ، فإني أعجب من شخص له في المسجد ثلاثة عشر عاماً ويقول : أنا غير متعلم ! .. فكيف ذلك ؟ ثلاث عشرة سنة وكل أسبوع ثلاثة دروس (تفسير وحديث وسيرة وفقه وخطبة ) ولستَ متعلماً ؟! بل متعلِّماً وأكثر ، فهذا الكلام يجب ألا نتكلمه ، فطالب العلم بالمسجد متعلِّم ، والأبلغ من ذلك : كفى بالمرء علماً أن يخشى الله ، فكل من استقام على أمر الله (والله لا أبالغ) فهو عالم .. عالم .. عالم ولو كان أميّاً ولو كان لم يحصل على الشهادة الإعدادية ، من غض بصره وكان دخله حلالاً ولم يكذب أو يغش ولم يعمل عملاً سيئاً ، ويقول : لستُ متعلماً .. فهذا كلام الشيطان .. فأنت متعلمٌ أكثر ، فمن عرف الله في مسجد فهو طالب علم ، فكلُّنا طلاب علم .. فإني لا أسمح لأحد له مجلس علم ويقول : لستُ متعلماً ، أهلي لم يعلموني .. أنت تتعلم عندنا ، فهذا علم .
يقولون : أحدهم عنده درجة ـ الليسانس ـ فما هي هذه الدرجة ؟ أي إن عنده ثماني مواد في ستة أشهر قد درسهم ، وعنده دوام في الجامعة يومياً خمس أو ست ساعات ، فقرأ عدداً من الكتب وتقدم للفحص ونجح فحصل على درجة ـ الليسانس ـ فمن تعريفات الجامعة .. أنها مدرسة يدخلها الطالب جاهلاً متواضعاً ، ويخرج منها جاهلاً متكبراً .. فإنني ألحُّ على أنه إذا كان للإنسان مجلسٌ للعلم فليس اسمه جاهلاً بل عالماً ، أو طالباً للعلم فهذا أكمل ، فلا تقل عالم بل قل : طالب علم .. لأنه يظلُّ المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظنَّ أنه قد علم فقد جهل ، في اللحظة التي تتوهَّم أنَّك تعلَّمت فأنت جاهل .
في الحقيقة كنت أقول لإخواننا دائماً : هناك علمٌ ممتع .. فأنت تقرأ قصيدةً شعرية رائعة أو قصة مثيرة جداً فهذا أدبٌ ممتعٌ ، وهناك علمٌ ممتع نافع .. فإن كنت مختصاً اختصاصاً نادراً ويقف على بابك أكثر من خمسين شخصاً وكل منهم يدفع لك ألف ليرة فأنت متعلم ولكن مع العلم تقبض المال فهذا علم ممتع نافع ، لكن العلم الديني .. علمٌ ممتعٌ نافعٌ مسعدٌ في الدنيا والآخرة ، أي إن أرقى علم هو : العلم الديني .. ممتع ونافع ومسعد ، أما أنَّه ممتع .. فلا أعظم من كلام الله قراءةً وحفظاً وتفهُّماً وتدَّبراً وتطبيقاً ، ولا أعظم من كلام رسول الله أو سير صحابة رسول الله ، أمَّا أنَّه نافع .. فعندما يستقيم الإنسان يستحق من الله الإكرام ، فسرُّ توفيقك في الحياة استقامتك .
فكم من إنسان انزلق ، فقد حدثني أحد الإخوان بقصة حدَثْت في الشام : أن سائق سيارة أجرة استوقفته امرأة وطلبت منه الذهاب إلى أي مكان يريده ، فسقط معها .. وقد ناولته ظرفاً به خمسة آلاف دولار ورسالة كتب فيها ( مرحباً بك في نادي الإيدز ) ، وعندما ذهب لصرف المبلغ وجده مزوراً فدخل السجن وأصيب بالمرض العُضال ومات ، هذا هو الجهل ، فلو كان يحضر مجلس علم لامتنع عنها وطردها .
" العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تُنقِصُهُ النفقة والعلم يزكو على الإنفاق " .
فلذلك يا إخواننا الكرام العلم الديني في الحقيقة هو أمتع شيء في الحياة ، وهو نافع وهو سر نجاحك في الحياة ، وسر مكانتك العالية وثقة الناس بك ، فالأمين موثوق ، والمستقيم مكرَّم وعظيم كثيراً ، فأصبح العلم الديني ممتعاً ونافعاً ومسعداً في الدنيا والآخرة ، لذلك فالإنسان يجب أن يختار العلم الديني .
(( النبي دخل المسجد فرأى رجلاً قال : من هذا ؟ .. قالوا : هذا نسَّابة . قال : وما نسَّابة ! .. فقالوا : يعرف أنساب العرب . فقال عليه الصلاة والسلام : ذلك علمٌ لا ينفع من تعلَّمه ، ولا يضرُّ من جهل به ))
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ وَمِنْ دُعَاءٍ لا يُسْمَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ وَمِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاءِ الأرْبَعِ .... ))
[ سنن الترمذي عن عبد الله بن عمرو]
إذاً فالعلم الدينيّ هو العلم الحقيقيّ ، والإمام الغزالي يقول : "حيثما وردت كلمة العلم في القرآن الكريم فإنَّما تعني العلم بالله ". هذا أرقى علم وأشرف علم ، فمن كان له مجلس علم يقول : أنا متعلم ونصف ، وإن لم يكن معه كفاءة ، لوجود ثلاثة دروس كل أسبوع ، ولفترة ثلاثَ عشرة سنة ، فأصبحت عالماً وزيادة ، فالانتساب لمجلس علم دليلٌ على أنَّك طالب علم ، كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك .
والحمد لله رب العالمين