أما بعد فيتردد على الأسماع لفظ الديمقراطية ، الذي بات من أكثر الألفاظ
شيوعا ، بسبب الإرهاب الذي تمارسه الدول الصناعية الحربية على الشعوب
المستضعفة ؛ لتفرض عليها تطبيق هذا النظام الجاهلي ؛ وتحمل الأمم عليه
بالقوة والسلاح والتهديد والوعيد ؛ لنشر اللادينية ، واستلاب إرادة الناس
، بوجه ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب ؛ مروجة في إعلامها أن في
الديمقراطية العدل والمساواة والحرية ، وأنها المنقذ للبشرية من الطغيان
والاستبداد ، وبها يقضى على الفساد ؛ حتى ظهر أثر ذلك على أبناء المسلمين
، ومنهم من هو منتسب للدعوة والعلم والفكر والثقافة ، بل منهم من حرف أدلة
الكتاب والسنة وانقض على القواعد الشرعية ، وصادر فهم السلف ؛ ليجعل
الديمقراطية منهاجا شرعيا إسلاميا ، ومنهم من يعلن غبطته للدول التي تزعم
تطبيق الديمقراطية ، ويتمنى أن لوكانت هي الشرعة السائدة في بلاد المسلمين
، بل ذهب ببعضهم هوسها إلى أنها الأداة المثلى المتاحة لوضع شريعة الله
موضع التطبيق ، وأنه لن يستقيم للمسلمين حال بغيرها ، وأنها هي الوسيلة
الوحيدة الأوثق والأسلم التي توصلت إليها البشرية حتى اليوم لإدارة شؤون
الحكم ومراقبتها ، باعثهم على ذلك تأثيرات مظلمة ، وجهالات مطبقة ، وأهواء
مستحكمة ، وشهوات عارمة ، وخداع لاينتهي،. فكان لابد من بيان حقيقة
الديمقراطية وبيان فسادها لمناقضتها لشرع الله .
فهي ـ كما يصورها أهلها ـ فلسفة وطريقة في الحياة والدين قبل أن تكون نظام حكم .
فأساسها سلب الله محض حقه ، وتنحية الدين عن أن يكون الحكم به والتحاكم
إليه ، بل الدين مقصور على العقيدة الشخصية لكل واحد ، مع إطلاق الحرية له
في ذلك ، فإن شاء كان اليوم مسلما ، وغدا شيوعيا ، وبعده نصرانيا ، يتنقل
من دين إلى دين ، مع حظر التعرض له ، ممانتج عنه القول بتعطيل حد الردة
الذي استفاضت به الأدلة وأجمع عليه أهل العلم ، بل الديمقراطية تعطيل
للحدود والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل رد للشرع جملة
وتفصيلا .
فالديمقراطية والعلمانية والدستورية أسماء لحقيقة واحدة ، وجوهر متفق ـ
وإن انفردت كل واحدة منها بما ليس في الأخرى ـ هو : فصل الدين عن الدنيا
والدولة ، وتحكيم آراء البشر ، وجعلهم مصدر التشريع ، فما أقروه من هذه
الدساتير الوضعية ، فالسيادة له ، والحكم به ، وهو فوق كل شيء بزعمهم ،
ولاشيء فوقه ، فما أجازه فهو الحلال ، ومالم يجزه فهو المحظور الذي يستحق
صاحبه العقوبة ، وماوافق من أحكامه الشرع فبآراء الرجال لا بحكم الله
تعالى وتقدس عما يقول المبطلون ( فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم
ممايكسبون ).
ولا ريب أن تجريد أفعال الناس وأحوالهم الدنيوية عن أحكام الله باسم
الديمقراطية أوالدستورية أوالعلمانية : اعتداء على الخالق ، وظلم للعباد ،
وجناية على الدين ، وتسفيه للمرسلين ، ومصادرة لأحكام رب العالمين ( فماذا
بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ).
الله أكبر! ماهذا العدوان على رب العالمين ؟! أيريد المخلوق الضعيف الفقير
إلى ربه أن يكون شريكا لله في حكمه وملكه والله يقول : ( ألا له الخلق
والأمر تبارك الله رب العالمين ) ؟
الله اكبر ! ماهذا التسابق والتساوق إلى حيث هلاك الدين ؟!
الله أكبر ! ماهذا الاغترار والانجرار خلف هذا النظام الذي فيه دعوة إلى
تجاوز الشرع بل والعقل والفطرة ، يفرق بين المتماثلين ، ويجمع بين
النقيضين .
إن بالديمقراطية يستباح الربا والزنا والمحارم ، وتنتشر البدع ، ويعم الشرك .
إن النظام الديمقراطي نزل بطوائف من البشر إلى أخس من البهائم ، أليس
الزواج المثلي زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة نتاج الديمقراطية ؟ فتبا
لعقل يقبل نظاما آل بأهله إلى هذا المستوى من الانحطاط! والأمثلة كثيرة
على فساده ، وضلال من يدعو إليه ، وكفى بواقعه المبني على النفعية المحضة،
وقلب الحقائق ، ولبس الحق بالباطل دليلا على فساده وظلمه .
ونحن أمة أعزنا الله بالإسلام ، فكيف يدعى إلى العدول عنه إلى نظام يناقضه
، ويكفي شهادة على مناقضته للإسلام مباركة العلمانيين والاشتراكيين
والنصارى والمجوس وغيرهم من طوائف الكفر والضلال له ، وانضمامهم تحت لوائه
، بل وصراعهم من أجل تطبيقه ، ولوكان موافقا للإسلام ـ كما يدندن به بعض
المفتونين بالغرب ـ لم يباركوه ، ويحتفوا به ، وأقرب مثال على ذلك مارفع
في هذه الثورات من مناداة بالديمقراطية ورفض رفع شعار الإسلام ، بل أعلنوا
أنه لن يدخل في انتخاباتهم أي حزب ديني ، فهل يقول بعد ذلك عاقل بأن
الديمقراطية لاتصادم الإسلام ؟!
ومن الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية أن الأمة مصدر السلطات والسيادة
بيدها ، ولاتتم إلا بالتعددية الحزبية ، وكلاهما باطل ، فالحكم لله وحده
لاشريك له ، قال تعالى : ( ولايشرك في حكمه أحدا ) وقال : ( إن الحكم إلا
لله ) وقال : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ ) وقال :
( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ ) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْكَافِرُونَ ) وفي الآية الأخرى ( فأولئك هم الظالمون ) وفي
الثالثة ( فأولئك هم الفاسقون ) ، وقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلالاً بَعِيدا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ
اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ
صُدُودًا) (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِين وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا
مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) وقال تعالى :
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا
إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ
يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
والتعددية الحزبية مرفوضة منهي عنها ، قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) .
إن طلب الديمقراطية قد قدح في كمال الدين ، ورد على الله وعلى رسوله صلى
الله عليه وسلم ، والله يقول ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَىلِلْمُسْلِمِين )
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما ) (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .
ومن طلب الديمقراطية فقد طلب الجاهلية ، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أبغض الناس إلى الله ثلاثة
ملحدٌ في الحرم ، ومبتغ في الإسلام سنة ً جاهلية ، ومطلب دم امرئ بغير
حقٍّ ليهريق دمه ) قال أبوالعباس بن تيمية رحمه الله : ( فكل من أراد في
الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث . والسنة
الجاهلية كل عادة كانوا عليها ) اقتضاء الصراط (1 / 76) .
والحق تعالى يقول : ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) .
ويكفي الديمقراطية والدستورية ضلالا أنها أهواء الناس ، وقد قال تعالى : (
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) ، وقد قابل الله بين الوحي والهوى ، فمن اتبع
الهوى فقد رد الوحي وكان من الظالمين ، كما قال تعالى : ( وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ) (
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى
مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين ) .
وخزايا الديمقراطية والدستورية وفضائحهما وتناقضاتهما أكثر من أن يحصى في
مثل هذا المقام ، وصدق الله ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا ) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه :د.عبدالعزيز بن محمد السعيد